اضطرت كوريا إلى فتح موانئها تطبيقا لاتفاقيتها مع اليابان عام ١٨٧٦ المعروفة أيضا باسم معاهدة غانغهوا، مما أسفر عن حدوث تغيرات ثقافية سريعة في المجتمع الكوري. وبعد قرن، أدت موجة العولمة الثقافية التي اجتاحت العالم إلى ظهور «عصر التنوير الثاني». لكن، على النقيض من القرن الماضي، فإن الكوريين اليوم جاهزون لمواجهة التغيرات الجديدة وتعزيز مكانتهم الثقافية على المستوى العالمي بالاستفادة من وسائل الإعلام الرقمي.
ألقى آر إم خطابا بالنيابة عن فرقة بي تي إس بمناسبة إطالق مبادرة " جيل غير محدود"، وهي مبادرة عالمية للشباب تابعة لمنظمة اليونيسيف، على هامش الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة لألمم المتحدة في ٤٢ من سبتمبر عام ٨١٠٢.تركت رسالتهم " ابحث عن صوتك"انطباعا طيبا في قلوب الشباب من جميع أنحاء العالم© صحيفة جوسون اليومية
يُعد المسلسل التلفزيوني «السيد المشرق» أكثر المحتويات الثقافية شعبية في كوريا عام ٢٠١٨، ويسرد هذا المسلسل التلفزيوني حكايات لناس عاشوا في مطلع القرن العشرين، حيث دخلت السفن الأمريكية والفرنسية واليابانية إلى مياه شبه الجزيرة الكورية طالبة من مملكة جوسون الانعزالية فتح موانئها. وقد ترك مسلسل «السيد المشرق» أثرا كبيرا في قلوب المشاهدين لأنه سلط الضوء على «المناضلين الصالحين المجهولين» الذين ضحوا بأرواحهم للدفاع عن بلادهم ضد عدوان القوات الأجنبية. كما أن هذا المسلسل اكتسب أهمية خاصة لأنه يصور الانقسامات الاجتماعية التي نتجت عن دخول الثقافات الجديدة من الدول الغربية التي أدت إلى تغيرات عميقة في وعي شرائح المجتمع جميعا.
لقد ركزت معظم الأفلام والمسلسلات التلفزيونية السابقة التي تحدثت عن أواخر عصر مملكة جوسون على حركة الاستقلال ضد الحكم الاستعماري الياباني. في حين اختلف مسلسل «السيد المشرق» اختلافا ملحوظا عما سبقه، فوصف أحداث الحياة اليومية لعامة الناس التي وقعت في شوارع مدينة هانيانغ، وهي عاصمة مملكة جوسون التي تحول اسمها اليوم إلى سيول، حيث تنتشر فيها الفنادق على النمط الغربي والمخابز الفرنسية والحانات اليابانية ومتاجر الخياطة.
بطلة القصة ومحورها في مسلسل «السيد المشرق» فتاة مفعمة بالحيوية ترفض الحياة النمطية التي فُرضت على الفتيات وتنتمي لإحدى العائلات النبيلة، هذه الفتاة كانت مخطوبة لرجل اختارته عائلتها لكنها تقع في حب رجل يُدعى «يوجين تشوي»، و»يوجين تشوي» هذا وُلد في عائلة من الرقيق وهرب إلى أمريكا في سن مبكرة وعاد إلى كوريا بعد سنوات بصفة ضابط في البحرية الأمريكية للعمل في البعثة الأمريكية. تتعلم البطلة سرا طريقة إطلاق النار بالبندقية من صياد فقير، وتصبح قناصة تلاحق الكوريين العملاء المتعاونين مع الاحتلال الياباني. وترمز البطلة إلى النساء اللواتي عشن الحياة المستقلة والنشطة في عصر التنوير الكوري واخترن مصيرهن بأنفسهن.
مبادرة " جيل غير محدود"، وهي مبادرة عالمية للشباب تابعة لمنظمة اليونيسيف، على هامش الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة لألمم المتحدة في ٤٢ من سبتمبر عام ٨١٠٢.تركت رسالتهم " ابحث عن صوتك"انطباعا طيبا في قلوب الشباب من جميع أنحاء العالم. مشهد من الفيلم لجولة فرقة بي تي إس العالمية بعنوان " أحبب© شركة بيغ هيت
يحظى إستوديو التصوير في سان غيوك-دونغ في مدينة دايغو بإقبال كبير من الشباب بسبب صوره التي يلتقطها على الطراز القديم التي تذ ّكر بأواخر عصر مملكة جوسون في مطلع القرن العشرين. افتتح اإلستوديو فروعا له في سيول وبوسان بفضل شعبيته الواسعة © إستوديو سان غيوك
محتوى عالمي
لمسلسل»السيد المشرق» أهمية رمزية لأنه يمثل نموذجا جديدا للمحتويات الثقافية يحتاجها العالم الذي يواجه العولمة الثقافية وترتبط فيه كل دولة بالدول الأخرى من خلال الشبكات الرقمية. وقد بلغت تكلفة الإنتاج لجميع حلقاته ٤٣ مليار وون كوري، وهو ما يعادل حوالي ٣٩ مليون دولار أمريكي، واكتمل تصويره قبل بث الحلقة الأولى. وما كان ليتحقق ذلك في ظل نظام الإنتاج الحالي للمسلسلات التلفزيونية في كوريا، لولا الشركة الترفيهية الأمريكية نتفليكس التي استثمرت ٧٠ في المئة من إجمالي تكلفة الإنتاج، مما مكن من خروج هذا العمل إلى جمهور المشاهدين. كما أن نتفليكس التي تقدم الخدمات على المستوى العالمي بثت «السيد المشرق» في دول العالم بشكل متزامن مع بثه في كوريا. وبذلك، أسست نموذجا جديدا لإنتاج المسلسلات التلفزيونية الكورية واستهلاكها.
إن صناعة المحتويات الدرامية الكورية تقف عند نقطة تحول، حيث يزداد عدد المشاهدين الذين يتبادلون المحتويات ويستهلكونها بشكل مباشر في جميع أنحاء العالم بالاستفادة من المنصات العالمية لتقديم المحتويات مثل نتفليكس ويوتيوب. واليوم، تقف وسائل الإعلام المحلية وصناعة الترفيه المحلية على أعتاب حقبة «العولمة الجديدة»، حيث يجب عليها أن تقرر ما إذا كانت ستوسع نطاقها على المستوى العالمي أم تكتفي بالبقاء في السوق المحلية.
ومن هذا المنظور، تكتسب الخلفية التاريخية لمسلسل «السيد المشرق» أهمية خاصة. ولا يُعد القرن العشرين حقبة هامة في التاريخ الكوري فحسب، بل إنه يحتوي على العناصر التي يمكن أن يستفيد منها المشاهدون في جميع أنحاء العالم. وقد حظي هذا المسلسل بإقبال واسع من مشاهدي العالم بسبب الرومانسية والتطلع للحرية والسلام والحب التي احتضنتها هذه الحقبة من التاريخ الكوري التي تُعد ضمن الموضوعات العالمية العابرة للأعراق والجنسيات.
إن هذه الحقبة الفريدة من التاريخ الكوري التي اتسمت بالصراع الثقافي الشديد بين التقاليد المحلية والثقافات الأجنبية تشكل خلفية مثيرة للاهتمام تتيح للمخرجين الفرصة بإطلاق العنان لخيالهم. وفيلم «الطيب والشرس والغريب» الذي يعود لهذه الحقبة خير مثال على ذلك. وقد استخدم المخرج «كيم جي-وون» في فيلمه النوع السينمائي المسمى بـ»الغرب الأمريكي» مختلف الأدوات المثيرة للخيال واستلهم فيلمه من هذه الحقبة التي التقت فيها الثقافات المتباينة.
معايير جديدة
أن النجاح العالمي لفرقة البوب الكوري «بي تي إس» التي تُدعى أيضا «فتيان بانغتان» يُعد أبرز مثال على «عصر التنوير الجديد»، فهذه الفرقة تتواصل مع المعجبين في شتى أنحاء العالم من خلال وسائل الإعلام الجديدة مثل يوتيوب، مما أدى إلى تشكيل قاعدة معجبين متينة تُعرف باسم «بي تي إس آرميز» العابرة للجنسيات واللغات. ويعود السبب الرئيس لنجاحهم العالمي إلى تميزهم في الموسيقى والرقص اللذين يُعدان اللغة العالمية للبشرية.
ومن المثير للاهتمام أن سلسلة النجاحات التي حققتها فرقة «بي تي إس» ووجهت بالعداوة في اليابان بما يتناقض مع اتجاهات العصر، فقد أصبح جي-مين، أحد أعضاء الفرقة، هدفا للانتقادات العلنية من جانب اليمين المتطرف في اليابان الذي أبدى اعتراضه الشديد على القميص الذي ارتداه جي-مين ويحمل صورة للقصف النووي الذي قامت به الولايات المتحدة الأمريكية على اليابان، فضلا عن العبارات التي تذكر استقلال كوريا. وقد تم تداول صورة جي-مين وهو يرتدي هذا القميص في وسائل التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى إثارة الجدل وأدى في نهاية المطاف إلى اعتذار الوكالة التي تدير الفرقة. وبغض النظر عن عدم مراعاة النجم الشاب لنتيجة اختيار ملابسه، فقد أشار هذا الحدث إلى تغيير نموذج استهلاك المحتويات الثقافية في عصر الترابط العالمي. وثبت أن طلب اليمين المتطرف في اليابان منع جميع فرق البوب الكوري من الظهور في البرامج التلفزيونية المشهورة في اليابان يُعد شيئا فات أوانه وتجاوزه العصر، حينما تعامل المعجبون لفرقة «بي تي إس» في جميع أنحاء العالم مع هذه القضية بشكل فوري عبر وسائل الإعلام الرقمية.
وأشار هذا الحدث أيضا إلى أن عصر التنوير الجديد يتطلب معيارا عالميا جديدا للمحتويات الثقافية يتجاوز المفاهيم القديمة مثل الحدود بين البلدان والأديان. كما أن هذا العصر الذي يتم فيه التبادل بين الثقافات على المستوى العالمي يحتاج إلى القيم التي تتشاركها جميع شعوب العالم، ومنها الحرية والسلام والتعايش، أي القيم التي تبتعد عن المواجهة.
Iأمام صناع المحتويات خيار واضح، إذا أخذوا بعين الاعتبار خبرات الشعب الكوري. إن الخيار الوحيد المتاح هو إيجاد طرق يحافظون بها على ثقافتهم الخاصة ومتابعة القيم العالمية المشتركة للبشرية في الوقت نفسه.
ملصق مسلسل " السيد المشرق"الذي يُ التلفزيونية شعبية عام ٨١٠٢.سلط هذا المسلسل الضوء على "المناضلين الصالحين المجهولين"في عصر اإلمبراطورية الكورية وصور شخصيات أنثوية نشطة ومستقلة.كما أن المسلسل عرض المباني الحديثة في سيول، بما فيها الفنادق والمخابز ومتاجر الخياطة نيت على الطراز الغربي. التي بُ .2 يحظى إستوديو التصوير في سان غيوك-دونغ في مدينة دايغو بإقبال كبير من الشباب بسبب صوره التي يلتقطها على الطراز القديم التي تذ ّكر بأواخر عصر مملكة جوسون في مطلع القرن العشرين. افتتح اإلستوديو فروعا له في سيول وبوسان بفضل شعبيته الواسعة.© إستوديو سان غيوك
تحديات جديدة
يُعتبر فيلم «الملحمة البوهيمية»، وهو فيلم سيرة ذاتية عن فرقة الروك البريطانية «كوين» والمغني الرئيس لها «فريدي ميركوري»، مثالا آخر على تغيير نموذج استهلاك المحتويات الثقافية في عصر وسائل الإعلام الجديدة. فهذا الفيلم حظي بإقبال كبير في كوريا وسجل رقما قياسيا جديدا لإيرادات شباك التذاكر للأفلام الموسيقية وحقق نجاحا أكبر مما حققه في بريطانيا التي وُلدت فيها الفرقة. وسمح النوع الجديد من العروض السينمائية للمشاهدين بالغناء والرقص على أنغام الأغاني المشهورة لفرقة «كوين» أثناء مشاهدة الفيلم، وهو ما دفع عجلة النجاح لهذا الفيلم الموسيقي.
تشهد المحتويات الثقافية تغيرا مستمرا، بحيث أصبح ينتجها صناع المحتويات ويكملها المستهلكون اليوم. فعلى سبيل المثال، لم تكتمل عروض فرقة «بي تي إس» دون معجبيهم «بي تي إس آرميز» الذين يغنون ويرقصون معهم. كما أن المشاهدين المتحمسين لفيلم «الملحمة البوهيمية» جعلوا الفيلم شيئا كاملا. ويُقال إن مشاركة المستهلكين في المحتويات الثقافية تعطي معنى جديدا لأنماط استهلاك المحتويات الثقافية بصرف النظر عن اللغة أو الدولة.
ومع ظهور وسائل الإعلام الجديدة، يزداد عدد مشاهير التلفزيون الذين يرغبون في النجاح كصناع محتويات على المنصات الرقمية، في حين أن صناع المحتويات الأكثر شهرة على يوتيوب، بمن فيهم بوزبين وبانز وسين، يُعتبرون أكثر شعبية ونفوذا من مشاهير التلفزيون. واليوم، يظهر صناع المحتويات الذين حظوا بشعبية كبيرة على يوتيوب في مختلف البرامج التلفزيونية والإعلانات التجارية، في الوقت الذي يحاول فيه مشاهير التلفزيون توسيع نفوذهم بصنع الفيديوهات للبث الشخصي. ويشير كل ذلك إلى تحول السلطة من وسائل الإعلام القديمة إلى وسائل الإعلام الجديدة.
تساهم الشبكات الرقمية التي صُنعت بتكنولوجيا وسائل الإعلام الجديدة في فتح «عصر التنوير الجديد» الذي يتميز بالعولمة الثقافية. وأمام صناع المحتويات في أيامنا الحالية خيار واضح، إذا أخذوا بعين الاعتبار خبرات الشعب الكوري قبل مائة عام خلال أواخر عصر مملكة جوسون، فالباب مفتوح على مصراعيه والمسار محدد بوضوح. إن الخيار الوحيد المتاح هو إيجاد طرق يحافظون بها على ثقافتهم الخاصة ومتابعة القيم العالمية المشتركة للبشرية في الوقت نفسه.