بوداي ججيغاي طبق نشأ في أعقاب الحرب الكورية خلال فترة صعبة كان فيها العديد من الكوريين يعانون من الجوع ويكافحون يوميا للحصول على وجبة طعام. كان هذا الحساء مصدرا كبيرا للراحة بفضل مكوناته الوفيرة، لكن جاذبيته تجاوزت مجرد الغذاء. فقد أصبح الناس يحبون اندماج المكونات الغربية والنكهات الكورية.
يعد طبق بوداي ججيغاي الذي يجمع بين المكونات الكورية الأساسية مثل كيمتشي وغوتشوجانغ مع المكونات الغربية مثل قديد الخنزير والنقانق والهام والفاصوليا المطبوخة مثالا على اندماج ثقافتين غذائيتين مختلفتين.
تتشكل ثقافة الطعام في أي أمة من خلال مجموعة فريدة من العوامل. ويتجذر بعضها في الجغرافيا فيما يخصّ المناخ والتربة، في حين يتشكل بعضها الآخر بفعل التأثيرات الخارجية مثل الأحداث التاريخية والكوارث الطبيعية. لقد تركت الحروب والنزاعات تأثيرا كبيرا على ثقافات الطعام في جميع أنحاء العالم. ومن الأمثلة البارزة على ذلك طبق الوعاء الساخن المصنوع من سلق الخضروات وشرائح رقيقة من اللحم البقري في المرق المغلي. ووفقا للأسطورة، تم جلب هذا الطبق إلى أجزاء مختلفة من العالم من قبل القوات المغولية الغازية أثناء فتوحات جنكيز خان، ويُعرف اليوم باسم “شابو شابو”. وثَمّة مثال آخر في التاريخ وهو اختراع الطعام المعلب الذي بدأ بمسابقة نظمها نابليون لتحسين طرق حفظ الطعام من أجل توفير مؤن عالية الجودة لجنوده.
الأصول العسكرية
ظهر طبق “بوداي ججيغاي” في أعقاب الحرب الكورية التي اندلعت عام ١٩٥٠. وقد ترك الصراع المسلح ندوبا دائمة على شبه الجزيرة الكورية حيث انقسمت إلى دولتين لهما أيديولوجيات متعارضة. وحتى بعد توقيع اتفاقية الهدنة في عام ١٩٥٣ التي أنهت الأعمال العدائية النشطة، بقيت القوات العسكرية الأمريكية متمركزة في المدن المحيطة بسيول بما فيها يوجيونغبو و باجو وسونغتان(وهي الآن جزء من بيونغتايك). وكما يوحي اسم “بوداي ججيغاي” الذي يعني حرفيا “حساء القاعدة العسكرية”، فإن الطبق مرتبط ارتباطا وثيقا بهذه القواعد العسكرية.
يمزج الحساء الحار بين الهام والنقانق وقديد الخنزير واللحم المفروم والفاصوليا المطبوخة والكيمتشي بالمرَق بنكهة غوتشوجانغ أي معجون الفلفل الأحمر المخمر. يمكن أيضا إضافة المعكرونة سريعة التحضير لزيادة القوام والنكهة. ولكن ما السر وراء شعبية هذا الطبق بين الكوريين اليوم؟
إذا أردنا معرفة السر وراء هذا الطبق، فعلينا زيارة مطعم أودينغ سيكدانغ في يوجيونغبو أول مطعم قدم هذا الطبق. في عام ١٩٦٠، بدأ المؤسس ببيع طبق بوداي ججيغاي في بوجانغماتشا أي كشك طعام على الشارع. في البداية، لم يكن الطبق مدرجا حتى في قائمة الطعام. ووفقا لموقع المطعم على الإنترنت، فإنّ صاحبة المطعم قدمت في البداية أطباقا مقلية تتكون من الهام والنقانق وقديد الخنزير حيث كانت تحصل على هذه المكونات من عامل القاعدة العسكرية الأمريكية المجاورة. ومع ذلك، نظرا لأن الأرز عنصر أساسي في الثقافة الغذائية الكورية، بدأ الزبائن الذين اعتادوا ارتياد المكان يطلبون منها إعداد طبق حساء يمكنهم تناوله مع الأرز. فبعد التفكير، أضافت الصاحبة الماء والكيمتشي وغوتشوجانغ إلى الأطباق المقلية الموجودة ثم قامت بغلي جميع المكونات معا، مما أدى إلى ولادة الطبق ومن ثَمّ نشأ أول طبق بوداي ججيغاي.
سرعان ما وقع الناس في حب طعم النقانق والهام وقديد الخنزير حيث أثبت المرق الحار أنه المزيج المثالي مع الأرز. انتشرت أخبار هذا الطبق الجديد بسرعة، مما جذب حشودا متزايدة إلى كشك الطعام. ومع مرور الوقت، ظهرت مطاعم أخرى تقدم طبق بوداي ججيغاي في المنطقة حتى تشكل زقاق مليء بالمطاعم المتخصصة في هذا الطبق، حيث تمت تسميته رسميا بشارع يوجيونغبو بوداي ججيغاي في عام ٢٠٠٩.
تقع أشهر مطاعم بوداي ججيغاي بالقرب من القواعد العسكرية الأمريكية، لا سيما في المدن الواقعة على ضواحي العاصمة مثل يوجيونغبو ودونغدوتشون وبيونغتايك، وكذلك في غونسان في محافظة جولا الشمالية، وفي حي يونغسان في سيول الذي كان مقر القوات الأمريكية في كوريا حتى عام ٢٠١٨. يقدم كل من هذه المناطق طرازه الخاص من الطبق.
ومن المثير للاهتمام أن البعض يطلق على هذا الطبق اسم “حساء جونسون” (جونسون تانغ)، وهو اسم مستوحى من الرئيس الأمريكي ليندون جونسون الذي زار كوريا الجنوبية في عام ١٩٦٦.
شارع بوداي ججيغاي في يوجيونغبو بمحافظة غيونغغي هو موطن هذا الطبق الشهير، ويستضيف الآن مهرجانا سنويا للاحتفال به.
© مؤسسة تنشيط سوق يوجيونغبو
المكونات المميزة
في الأطباق الغربية، يتم تقديم النقانق والهام مشوية أو كحشوة للسندويشات عادة، لذلك فإن فكرة تناولها في حساء ملئ بالمرق قد تبدو غير مألوفة.
ولكن بالنسبة للعديد من الكوريين، لا تكون الوجبة مكتملة بدون طبق حساء. في طبق بوداي ججيغاي، تُطهى اللحوم في المرق مباشرة، فتكتسب طراوة مع الحفاظ على قوامها المطاطي، وتفرز عصارتها الغنية في الحساء فتُثري طعم الحساء. لكن العنصرين اللذين يسرقان الأضواء هما الفاصوليا المطبوخة والكيمتشي إذ يلعبان دورا جوهريا في تحسين النكهة العامة للطبق. تضيف الفاصوليا الطرية والناعمة تباينا رائعا مع النقانق المطاطية والهام مما يشكل انسجاما فريدا يرسم الابتسامة على الوجه. وفي الوقت نفسه، توفر النكهة الحارة للكيمتشي المطبوخ جيدا الطعم العميق في الطبق. يُعد استخدام الكيمتشي اللذيذ أمرا ضروريا لإبراز أفضل ما في المكونات الأخرى.
توفر بعض المطاعم خيار إضافة المعكرونة سريعة التحضير أو التوفو إلى الطبق، بينما تتجاوز مطاعم أخرى ذلك بإضافة شرائح الجبن الأمريكي إلى الطبق. تقدم المعكرونة الكربوهيدرات الممتازة، بينما يذوب الجبن المضاف بشكل مثالي داخل المرق ليسمح لكل ملعقة بالمذاق الخاص. لا يقتصر استخدام الجبن على طبق بوداي ججيغاي فقط، بل يُعد إضافة شائعة لأطباق كورية أخرى مثل داكغالبي (دجاج مقلي حار)، ودونغغالبي (ضلوع لحم الخنزير المشوية)، وطوكبوكي (كعك الأرز المقلي)، مما يضفي لمسة مميزة جديدة على هذه الأطباق التقليدية.
بفضل مزيجه الغني من المكونات وطعمه اللذيذ، صار بوداي ججيغاي يحظى بشعبية مثل الأطباق الكورية الكلاسيكية الأخرى كيمتشي ججيغاي ودينجانغ ججيغاي.
© شترستوك
المطاعم العريقة
أين يمكن تذوق أفضل طبق بوداي ججيغاي في كوريا؟ نظرا لكثرة المطاعم التي تقدم هذا الطبق الشعبي، فمن المؤكد أن أي حي يوفر وجود مجموعة من الخيارات. تنتشر سلسلة المطاعم في جميع أنحاء البلاد، وحتى المتاجر الصغيرة تبيعه في عبوات جاهزة للأكل. ومع ذلك، فإنّ الخيار الأحسن للاستمتاع بهذا الطبق وفهم تاريخه الطويل، هو المطاعم ذات التاريخ الطويل. والجدير بالذكر أن وصفات بوداي ججيغاي وأسماءه تختلف قليلا حسب المنطقة.
يعود أصل طبق بوداي ججيغاي على الطراز الخاص بـ”يوجيونغبو” مطعم أدينغ سيكدانغ الذي يقدم هذا الطبق على مدار ثلاثة أجيال. في هذا المطعم يتم قلي المكونات وتتبيلها مسبقا ولكن لا تستخدم الفاصوليا المطبوخة، مما ينتج طعما أكثر اعتدالا دون إضافة الحلاوة.
يتجلى طبق بوداي ججيغاي على الطراز الخاص بـيوجيونغبو في طراز سونغتان المميز. كانت سونغتان مدينة مستقلة في السابق لكنها اندمجت مع مدينة بيونغتايك في عام ١٩٩٥. وما يميز هذه الوصفة هو مرق العظام البقري الذي يضيف نكهة غنية وقواما أكثر كثافة. ويتم وضع الجبن الأمريكي على الطبق الذي يضمّ اللحم البقري المفروم والبصل الأخضر. ومن بين أشهر المطاعم في المنطقة “تشوينايجيب بوداي ججيغاي” و”كيمنيجيب” و”هوانغسوجيب” و””تتاينغجيب”. يرجع تاريخ مطعم تشوي ناي جيب بوداي ججيغاي إلى عام ١٩٦٩ عندما كان المؤسس يدير مطعما صغيرا فشجّعه أصدقاؤه الذين يعملون في القاعدة العسكرية الأمريكية المجاورة على البدء بتقديم هذا الطبق. يشتهر مطعم كيمنيجيب بسياسته الصارمة المتمثلة في عدم قبول طلبات إضافة النقانق والهام إلا مع الطلب الأول، والسبب في ذلك أن الغليان الطويل مع هذه الإضافات قد يزيد من ملوحة الطبق. ويجب إضافة المعكرونة سريعة التحضير في الوقت المناسب وهو منتصف عملية الطبخ تحديدا للحصول على القوام المثالي. أما في مطعم هوانغسوجيب فيتم صنع المرق باستخدام عظام هانو أي لحم البقر الكوري وهو أقل حرارة من الأنواع الأخرى المعروضة في سونغتان.
على الرغم من أن طبق بوداي ججيغاي على طراز باجو قد لا يحظى بشهرة واسعة مثل التي تحظى بها طرائق غيره في الإعداد، إلا أنه نجح في جذب عشاق مخلصين بفضل استخدامه كميات وفيرة من الخضار، لا سيما الأقحوان التاجي، وهو نبات ورقي أخضر يُستخدم بكثرة في المطبخ الكوري.
كما يتميز هذا الطراز بنكهة خفيفة لأنه لا يعتمد على مرق العظام إبّان عملية التحضير. من أشهر المطاعم التي اشتهرت بتقديم بوداي ججيغاي في باجو مطعم وونجو سامغيوري بوداي ججيغاي الذي يواصل عمله منذ أكثر من خمسين عاما، ومطعم جيونغمي شيكدانغ بوداي ججيغاي الذي افتُتح في التسعينيات وينال تفضيلا لدى السكان المحليين.
يختلف طبق بوداي ججيغاي على طراز غونسان عن الطرز المحلية الأخرى حيث يتم تحضيره بمرق اللحم البقري وتقديمه مع شرائح لحم البقر الرقيقة مثل طبق المعكرونة الباردة بيونغ يانغ-ناينغ ميون. أما مطعم بيهاينغجانغ جونغمون بوداي ججيغاي الذي افتُتح في عام ١٩٨٤ فهو واحد من أقدم المطاعم في غونسان. والمثير للاهتمام أن قائمة الطعام الخاصة به تشمل أيضا الهامبرغر الذي يطلبه العديد من الزبائن كطبق جانبي.
توجد العديد من مطاعم بوداي ججيغاي المشهورة في سيول أيضا، ويعتبر مطعم بادا سيكدانغ في إتايوان في حي يونغسان من أفضلها. يعود تاريخ المطعم إلى السبعينيات وهو يدرج الطبق في قائمة الطعام باسم جونسون تانغ.
يُعد بوداي ججيغاي طبقا كوريا فريدا نشأ نتيجة للواقع القاسي في فترة ما بعد الحرب ويعكس الروح الإبداعية للكوريين. ما زال الناس يستمتعون بالنكهة الحارة والمريحة التي تساعدهم في شفاء الجروح القديمة، ومواجهة تحديات الحياة اليومية.
بارك مي- هيانغ صحفية شؤون الطعام
لي مين-هي مصورة فوتوغرافية