تنسجم المناظر الطبيعية الجميلة مع التاريخ المؤلم في قرية غوتشانغ من محافظة جولا الشمالية. والتلال تحت أشعة الشمس والوديان التي تهب فيها الرياح حيث تذكر بثورة الفلاحين الفاشلة التي اندلعت في السنوات الأخيرة من حكم آخر مملكة في كوريا.
تشهد الحضارة والثقافة البشرية التي تستمر لآلاف السنين أزمة لا مثيل لها بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، كوفيد-١٩. وأصبح من الواضح أن العدو غير المرئي مخيف للغاية ولا صوت له مثل الصاروخ المتطور.
حتى في هذه اللحظة، نحاول الخروج من المأزق الذي لا مثيل له ولا مخرج. لو مات واحد من أفراد عائلتنا أو من أصدقائنا، لا نستطيع أن نقترب منه لإغلاق عينيه، ولا نستطيع أن نقدّم باقة من الزهور إلى أحبائنا وجها لوجه. لا يسمح فيروس كورونا المستجد لنا بأي مساحة من الحرية أو الحزن. لعل ذلك تحذير قوي للبشرية التي تستغل الحرية بشكل مفرط والحزن كذلك. علينا أن نراجع تصرفاتنا السابقة للتأكد مما إذا كنّا استغللنا حزن الآخرين أو حزن أنفسنا من أجل ذواتنا. «تذكر أنك ستموت»... هي العبارة التي أود أن أنقشها في قلبي في وقت الضيق هذا.
بذور الثورة
سهرت بعض الليالي قبل سفري إلى قرية غوتشانغ. وكنت مدمنا على متابعة المسلسل التلفزي الأمريكي «سبارتاكوس» الذي يتكون من ١٣ حلقة، وذلك بسبب التباعد الاجتماعي الناتج عن انتشار وباء كورونا، وإلا فلا أحب الوحدة ولست مولوعا بعالم نتفليكس.
وصل القطار الفائق السرعة إلى محطة سونغ جونغ في مدينة غوانغ جو بعد ساعة وأربعين دقيقة من انطلاقه من محطة يونغ سان في العاصمة سيول. لم يتوقف القطار في محطة جونغ ووب وهي الأقرب إلى مقصدي، بسبب انخفاض عدد الركاب الناتج عن جائحة كورونا. في المحطة، التقيت بصديقي واتجهنا معا بسيارته نحو قرية غوبو مرورا بقرية غوتشانغ. عندما دخلنا قرية غوتشانغ، وجدنا لافتة كبيرة مكتوب عليها شعار «نرحب بكم في غوتشانغ أول عاصمة كورية حيث يقع فيها جبل سون وون الجميل والموقع التاريخي لثورة دونغ هاك الفلاحية». نعم، ها هي الأرض التي رُفع فيها علم ثورة دونغ هاك الفلاحية لأول مرة في أواخر القرن التاسع عشر في نهاية عصر مملكة جوسون. وهنا مقبرة رَوَت ثراها دماءُ هؤلاء المقاتلين واحتضنت رُفاتهم وجماجمهم. بجانب هذا الشعار، رأيت عديدا من اللافتات الأخرى المكتوب عليها «موطن التوت وسمك أنقليس» أو «أرجو منكم المشاركة الجدية في حملة جمع التبرعات من أجل إنشاء تمثال للجنرال جون بونغ-جون». بالطبع، بنت عدة مؤسسات حكومية تماثيل للجنرال جون بونغ-جون، إلا أن تلك اللافتة تعني أن السكان المحليين يريدون أن يتطوعوا لإنشاء تمثال جديد.
بعد اجتياز حقل واسع، وصلت السيارة إلى بيت صغير ذي سقف مبلط، وهو بيت للثائر سونغ دو-هو (١٨٢٩-١٨٩٥م) في قرية غوبو من محافظة جولا الشمالية. لا يوجد باب لهذا البيت إلا أن عمودا من الخرسانة يقف في يمينه ومكتوب عليه «مكان اجتماع ثورة دونغ هاك الفلاحية». في هذا البيت، زُرعت بذور الثورة الفلاحية التي اجتاحت مملكة جوسون. البذور هي أعظم من الأشياء الأخرى التي تصعد إلى أعلى. كان هناك أبطال زرعوا تلك البذور وهم يحلمون بعالم جديد. وتعهدوا بالكفاح والمقاومة ضد الظلم وهم يتبادلون نظرات العزم. وأعلنوا عن قرارهم بكتابة العريضة المسماة بـ»سابال تونغمون» التي سجّل عليها جون بونغ-جون وسون هوا-جونغ (١٨٦١-١٨٩٥م) وكيم غاي-نام (١٨٥٣-١٨٩٥م) وغيرهم من الثوريين أسماءهم بشكل دائري لإخفاء هوية قائدهم. ويتشابه هذا النوع من العرائض مع اجتماعات الطاولة المستديرة الذي كان شائعا في العصور الوسطى في أوروبا، فإذا جلس الناس حول طاولة مستديرة، لا نستطيع أن نميز القائد من الحاضرين.
وتدل «سابال تونغمون» على أن ثورة دونغ هاك الفلاحية لم تحدث صدفة ولم تكن انتقاضة عفوية، بل كانت حدثا تاريخيا خطط له الشعب الكوري للمقاومة ضد الظلم الطويل. كما أن القواعد الأربع المكتوبة عليها تشير إلى أن هؤلاء الثوريين أعلنوا الحرب على الظالمين وكشفوا عن إرادتهم لاحتلال إدارة المحافظة والتقدم إلى العاصمة. أعتقد أنه شيء يشبه المعجزة أن هذه الوثيقة السرية لقوات الثوار لا تزال موجودة حتى اليوم. لقد اُكتشفت هذه الوثيقة صدفة في الأرض تحت بيت سونغ جون-سوب قبل ٥٣ عاما. بعد انتهاء الثورة بالفشل، أحرقت قوات الحكومة بيوت القرية بتهمة أنها «قرية الخونة» وذبحت سكانها بشكل عشوائي. مع ذلك، استطاعت «سابال تونغمون» أن تبقى على قيد الحياة بفضل أحد الأشخاص الذي دفنها في الأرض بشكل سري.
كان جد صديقي يعيش في البيت الذي يقع مقابل هذا الموقع التاريخي. حدق صديقي في هذين البيتين بالتناوب. وكان يبدو أن الدموع تملأ عينيه. زرتُ هذا الموقع قبل زيارة قرية غوتشانغ لأنني أردت أن أقف دقيقة صمت تكريما لتضحية أحد الثوريين الذي أُعدم بقطع رأسه قبل ١٢٦ عاما. استطعت أن أرى «برج ثورة دونغ هاك الفلاحية» في مكان قريب أنشأه أحفاد هؤلاء الثوار الذين سجلوا أسماءهم على «سابال تونغمون»، فضلا عن «البرج التذكاري لقوات ثورة دونغ هاك الفلاحية» الذي بُني تكريما للجنود المجهولين الذين لقوا حتفهم خلال القتال. وجدير بالذكر أن قوات الثورة انتصرت على قوات الحكومة في الانتفاضة الأولى في قرية غوبو (المقاومة ضد الحكم الظالم)، إلا أنها هُزمت في الانتفاضة الثانية في جبل «أوغوم تشي» من مدينة غونغ جو (المقاومة ضد الاحتلال الياباني)، ومات جميع الثوار الذين كانوا يكافحون برماح من الخيزران، بعيارات نارية أطلقتها قوات مملكة جوسون وجيش الاحتلال الياباني.
وعاء واحد من الأرز الأبيض موضوع أمام البرج التذكاري لشهداء الثورة. كان الفلاحون يكافحون ضد الظلم حاملين المعاول والمناجل للحصول على لقمة العيش. الغذاء شيء ضروري لا يمكن لأحد أن يحتكره مثل الكمامات في هذه الأيام. عندما ألقيت نظرة على حقل واسع، خطر ببالي مشهد الثوار الكوريين الذين يتقدمون إلى العاصمة ومشهد مقاتلي سبارتاكوس الذين يتقدمون إلى روما. أُجهضت هاتان الثورتان بقطع الرأس. قاتل العبيد في مسلسل سبارتاكوس وهم يرددون شعارهم «إذا قبضنا أيدينا الخالية فستصبح قبضة قوية» وحققوا تحررهم وحصلوا على الحرية، إلا أنهم صرخوا بسخرية «لا حرية دون مال». وهذه الصرخة مزقت قلبي. «لا حرية دون مال». صحيح، الحرية دون لقمة العيش تؤدي إلى الموت. لا يزال الضعفاء الذين لا يملكون إلا حرية الجوع عبيدا في المجتمع. وهذا الأمر لم يتغير رغم مرور آلاف السنين. وشيء واحد تغير فقط هو أن القيود المضروبة على العبيد تحولت من قيود في الأقدام إلى قيود على القلب.
هدية من البحر
خطرت ببالي سلسلة من الأفكار فشعرت بوجود شيء ثقيل على صدري. شعرت باختناق كأنني محبوس في نفق مسدود. اتجهت إلى قبور الدولمن في قرية غوتشانغ غير أنني غيرت مقصدي إلى معبد سون وون البوذي لأنني شعرت كأن صخرة ثقيلة تضغط على صدري. كنت أريد أن أزيل الغبار العالق في قلبي وأهدئ نفسي في معبد هادئ، إلا أن معبد سون وون كان مكتظا بالزوار الذين جاءوا لمشاهدة زهور الكاميليا المتفتحة عندما وصلت إليه. وتُعد زهور الكاميليا وتمثال البوذا على المنحدر الصخري رمزين رئيسين لمعبد سون وون.
«إي وون» من مملكة شيلا أسّسا معبد سون وون البوذي عام ٥٧٧م، حيث كانت المملكتان في حالة حرب وكان عدد النازحين يزداد باستمرار. وجمع هذان الراهبان البوذيان جهودهما لبناء المعبد وإغاثة النازحين فيه، رغم أنهما من مملكتين تقاتل كل منهما الأخرى، فَوَفّرا الغذاء للنازحين الجائعين ورعيا أيتام الحرب ودرّساهم. بعبارة أخرى، فإن هذا المعبد البوذي كان يلعب دور مركز إغاثة النازحين في ذلك الوقت. ولهذا السبب، بعد حوالي ألف وثلاثمائة عام، كانت قوات الثوار الفلاحيين تزور معبد سون وون البوذي وتصلّي أمام تمثال بوذا على المنحدر الصخري من أجل نجاح ثورتها. فكرتُ في ذلك وأنا ألقي نظرة على الرهبان البوذيين الذين كانوا يروحون ويغدون بين شجرات الكاميليا الحمراء المُزْهرة وراء القاعة الرئيسة للمعبد.
غادرتُ المعبد ثم ركضت نحو شاطئ البحر الرملي الطويل المسمى بـ»ميونغ سا سيب لي» حيث يقع منتجع «دونغ هو» الذي يقابل ميناء «غيوك بو» في منطقة بيون سان ومنتجع «غوسي بو». تُرخي أشجار الصنوبر التي تصل أعمارها إلى مئات السنين بظلالها على هذا الشاطئ الرملي الأبيض الجميل الذي يمتد مستقيما على طول كيلومتر واحد. وكلما هبت ريح الربيع التي تشبه البراعم جديدة، اغتسلت أذناي برائحة الصنوبر. كان صوت الريح الذي سمعته في غابة الصنوبر يشبه صوت الماء المغلي.
يمتد السهل الطيني لمسافة طويلة وراء الشاطئ الرملي. ويُشتهر البحر الأصفر الكوري بأن الفرق بين المد والجزر فيه أكبر من أي بحر آخر في العالم. كل يوم، يتكرر تحويل البحر إلى يابسة واليابسة إلى بحر. كنت أقف على اليابسة التي تحولت إلى بحر. وألقيت نظرة على السهل الطيني الواسع متذكرا شخصا تاريخيا يُقال إنه بنى ملاحات في قطعة من البحر. تقول الروايات التاريخية أنه خلال الغزو الياباني (١٥٩٢-١٥٩٨م) في عصر مملكة جوسون، عندما كان الجنود الكوريون يعانون من الجوع بسبب نقص المواد الغذائية، وضع الجنرال «لي سون-سين» (١٥٤٥-١٥٩٨م) مراجل في قطعة من شاطئ البحر وصب مياه البحر فيها وتركها تغلي حتى تتبخر المياه ويبقى الملح صالح للاستعمال البشري. عندئذ أمر الجنرال ببيع هذا الملح لشراء آلاف الأطنان من المواد الغذائية ووفرها لجنوده. فالجنرال «لي» لم يكن قائدا مميزا في المعارك فحسب، بل كان إداريا عبقريا أيضا.
ويُعد هذا الشاطئ مقصدا مشهورا للسياحة العلاجية بسبب ارتفاع نسبة ملوحة المياه، ويزوره الكثير من الذين يعانون من أمراض الجلد والأعصاب للسباحة في ماء البحر وللعلاج بحمامات الرمال. كما أن هناك كثيرا من الملاحات كبيرة الحجم للسبب نفسه. عندما نظرتُ إلى البحر بهدوء من غابة الصنوبر، شعرت برغبة مفاجئة في المشي حافي القدمين على هذا الشاطئ الرملي الأبيض الطويل. وخلعت الحذاء والجوارب. وكلما كانت تلمس الرمال الباردة قدميّ العاريتين، كنت أشعر كأن عضوا حسيا جديدا ينشأ في جسمي. بدأت شمس الغروب تلقي أشعتها على الشاطئ الرملي. وكان منظر غروب الشمس مثيرا ورائعا كمنظر أشجار الكاميليا وهي على وشك أن تُسقط زهورها الذابلة.
إذا زرت قرية غوتشانغ، فعليك أن تأكل سمك الأنقليس المشوي مع كأس من نبيذ التوت. ويشتهر سمك الأنقليس من هذه القرية بوصفه مادة غذائية مفيدة للصحة بسبب صيده في نقطة تلتقي فيها المياه المالحة بالمياه العذبة. اتجهتُ إلى مطعم في مكان معزول له فناء واسع لا يعرف وجوده إلا عدد قليل من الناس بدلا من المطاعم في الشوارع الكبرى، وهو مطعم «هيونغ جاي» لسمك الأنقليس. في هذا المطعم، يشوي صاحبه سمك الأنقليس على نار الفحم أمام الزبائن باستخدام الصلصة الخاصة به.
لا تُولد حياة جديدة دون التخلي عن الجمال كأن الثمار لا تُونِع دون تساقط الزهور. ألقيت نظرة ثابتة على البراعم الخضراء في حقول الشعير التي كانت تبللها الأمطار. ما اكتشفته في هذه الرحلة هو عين جديدة وليس منظرا جديدا.
قبور الدولمن
في صباح اليوم التالي، زرت معرض الدولمن في وسط القرية ثم اتجهت إلى موقع قبور الدولمن. أردت أن ألتقي بقبور الدولمن التي لا تتغير أشكالها رغم مرور الوقت. ووجدت سلسلة من قبور الدولمن ابتداء من مدخل القرية وحتى وصولي إلى مسار جبلي ضيق يؤدي إلى جبل كبير. في الحقيقة، فإن هذا الجبل الكبير نفسه متحف إنسان ما قبل التاريخ. وجميع قبور الدولمن مرقمة برقم معين. وكلما صعدت إلى أعلى، وجدت قبر الدولمن ذا الرقم الأقل. رغبت أن أشاهد قبر الدولمن الرقم ١ في قمة الجبل، إلا أنني اضطررت للتخلي عن هذه الرغبة لأنني كنت متعبا للغاية.
يُشار إلى أن ٦٠ بالمائة من قبور الدولمن في العالم اُكتشفت في شبه الجزيرة الكورية. وتُعد قرية غوتشانغ أكبر موقع لقبور الدولمن حيث يتجمع فيها حوالي 1,600 قبر تختلف في الأنواع والأشكال. وأُدرج موقع غوتشانغ لقبور الدولمن ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام ٢٠٠٠ نظرا لأهميته كشواهد تاريخية تدل على تاريخ تقنيات بناء الدولمن. وليس من قبيل المبالغة إذا قلنا إن قرية غوتشانغ نفسها تراث ثقافي ثمين. كما أن منظمة اليونسكو أدرجت كل القرية في الشبكة العالمية لمحميات المحيط الحيوي عام ٢٠١٣ نظرا لمناظرها الطبيعية الجميلة وتنوعها البيئي.
اتجهتُ على قدميّ المتعبتين نحو حقول الشعير الخضراء في مزرعة «هاك وون» التي تُعد مقصدا سياحيا مشهورا يزوره مئات آلاف السياح كل سنة. ويصل جمالها إلى الذروة في شهر أبريل حيث تشكل حقول الشعير الخضراء وزهور السلجم الصفراء منظرا خلابا. عندما كنت أمشي بين الحقول حيث بدأت أرى بين قدميّ البراعم الخضراء الصغيرة وأنا أفكر أنني قد وصلت إلى نهاية الرحلة، أخذت السماء تمطر بشكل مفاجئ. لا تُولد حياة جديدة دون التخلي عن الجمال كأن الثمار لا تُونِع دون تساقط الزهور. ألقيت نظرة ثابتة على البراعم الخضراء في حقول الشعير التي كانت الأمطار تبللها. ما اكتشفته في هذه الرحلة هو عين جديدة وليس منظرا جديدا.