تقع “سوتشون (معناها الحرفي القرية الغربية)” في وسط سيول، ويشير اسمها إلى موقعها غرب قصر غيونغبوك. وتتمتع هذه المنطقة بتاريخ عريق حيث كانت في عهد سلالة جوسون موطنا لأفراد العائلة المالكة والنبلاء من جهة، وملتقى لأدباء الطبقة الوسطى من جهة أخرى. وفي العصر الحديث ترك الكثيرُ من المؤلفين والفنانين بصمات لا تُمحى هناك أيضا.
يمتدّ السور الغربي لقصر غيونغبوك على مسافة ٨٠٠ متر تقريبا من محطة قصر غيونغبوك إلى سارانغتشاي للبيت الأزرق، مساحة لعرض إرث الرؤساء الكوريين السابقين والثقافة الكورية التقليدية. وتقع البوابة الغربية للقصر “يونغتشو-مون” في وسط السور الغربي.
تُعتبر سوتشون موقعا ميمونا وفقا لمبادئ الهندسة الجيوماتيكية التقليدية في كوريا، بالإضافة إلى كونها ذات جمال طبيعي رائع. ويحيط بها جبل بايغاك من الشمال، وجبل إنوانغ من الغرب، ويقع “غيونغبوك” القصر الرسمي لجوسون في شرقها. وفي غربها ساجيكدان، وهو مذبح أُقيمت فيه طقوس للصلاة من أجل وفرة الحصاد وتحقيق السلام في المملكة.
وتعدّ سوتشون من أقدم المناطق في سيول. وفي عام ١٠٦٨ في عهد مملكة غوريو (٩١٨ – ١٣٩٢ م)، تم بناء قصر ملكي مؤقت في شمال قصر غيونغبوك وفي موقع المقر الرئاسي السابق “البيت الأزرق”. ولا بُدّ أن منطقة سوتشون كانت قد تطوّرت بجوار القصر المؤقت في ذلك الحين.
واكتسبت هذه المنطقة أهمية تاريخية مع بناء قصر غيونغبوك. وبعد الإطاحة بسلالة غوريو، قام الملك “تايجو” المؤسس لجوسون (حكم بين عامي ١٣٩٢ و١٣٩٨) بنقل العاصمة إلى سيول الحالية في عام ١٣٩٤. وعندما اكتمل بناء قصر غيونغبوك في العام التالي، تشكّلت مؤسسات حكومية ومناطق سكنية حوله.
وقد أطلقت عليها أسماء مختلفة خلال عهد مملكة جوسون، وكان “جانغدونغ” أو “جانغ إوي دونغ” هو الاسم الأكثر استخداما.
منظر لسور القصر حول يونغتشو-مون، كما يظهر من مكتب مؤسسة أرومجيغي، وهي منظمة غير ربحية لحماية التراث الثقافي الكوري. ويمكن رؤية سور القصر من معظم المباني المواجهة لنفس الطريق، بما فيها مؤسسة أرومجيغي.
مسقط رأس الملوك
كان المكان الأكثر شهرة في سوتشون في أوائل عصر جوسون هو منزل الابن الخامس لتايجو “إي بانغ-وون” الذي تولّى العرش ملكا لتايجونغ (حكم بين عامي ١٤٠٠ و١٤١٨). وفي منزله الذي يُفترض أنه وقع في حي تونغإن الحالي، وُلد أربعة ملوك لجوسون منهم ابنه وحفيداه. وكان أولياء العهد يعيشون عادة في القصر الملكي، لذا فإن كون هؤلاء الملوك قد وُلدوا في المنزل الخاص يعني أنهم لم يكونوا في البداية ضمن تسلسل خلافة العرش.
وبالرغم من ذلك فإنّ ابن تايجونغ “سيجونغ (حكم بين عامي ١٤١٨ و١٤٥٠)” وحفيدَيْه “مونجونغ (حكم بين عامي ١٤٥٠ و١٤٥٢)” و”سيجو (حكم بين عامي ١٤٥٥ و١٤٦٨)” قد توّجوا ملوكا على التوالي، وذلك بسبب أن تايجونغ دبّر انقلابا واستولى على العرش. وقد ترك ابنُه سيجونغ أعظم إرث من بين ملوك جوسون، وهو ابتكار الأبجدية الكورية “الهانغول”. كما أنه وسّع أراضي المملكة وأحرز تقدّما ملحوظا في العلوم والتقنيات.
وفي أوائل عصر مملكة جوسون، عاش قسم من أفراد العائلة المالكة الآخرين في سوتشون، بمن فيهم ابن سيجونغ الأمير “آنبيونغ”. وكان منزله هو المكان الذي رسم فيه “آن غيون”، أحد أبرز فناني تلك الفترة، لوحة شهيرة بعنوان “مونغيو دووندو (رحلة في أرض أزهار الخوخ في الحلم)”. وطالبه الأمير رسم الجنة التي رآها في حلمه. وهذه اللوحة محفوظة الآن في مكتبة جامعة تينري اليابانية.
كما أن الملك “يونغجو (حكم بين عامي ١٧٢٤ و١٧٧٦)” الذي يُعدّ من أعظم الملوك في أواخر عصر جوسون، عاش في قصر تشانغوي الواقع في جنوب سوتشون قبل تولّيه العرش. وحتى بعد ذلك كان يتردّد على القصر ويكتب بعض قصائده عن أيامه هناك. وبالإضافة إلى ذلك فإنه أنشأ في شمال سوتشون ضريحا لأمّه التي كانت من طبقة اجتماعية متدنية، وكان يزوره كثيرا.
افتُتح متجر دايو للكتب في عام ١٩٥١، ويُعرف بأنه أقدم متجر كتب في سيول. ويعمل حاليا كمقهى ومساحة ثقافية، وأصبح معلما جذابا في سوتشون.
موطن عشيرة جانغدونغ كيم
كان “كيم سانغ-هون” أحد أبرز نبلاء جوسون من سوتشون. وكان يُصرّ بشدة على ضرورة مقاومة بلاده غزوات سلالة تشينغ الصينية. وتم تجسيد دوره من قبل الممثل “كيم يون-سوك” في فيلم “القلعة” لعام ٢٠١٧ من إخراج “هوانغ دونغ-هيوك”، وهو معروف بمسلسل نتفليكس الأصلي “لعبة الحبار”.
ولم يبلغ كيم أعلى رتبة رسمية فقط، بل إنّ أحفاده قد شغلوا مناصب عالية أيضا. وشكلت عائلته نواة أقوى فصيل سياسي في أواخر عصر جوسون وخرّجت العديد من المسؤولين الحكوميين، من ضمنهم ١٥ رئيس وزراء ونائب رئيس وزراء و٣٥ وزيرا. والحقيقة أن عائلة كيم انحدرت من “أندونغ” في محافظة غيونغسانغ الشمالية، لكن كان يطلق عليها اسم “عشيرة جانغدونغ كيم”، لأن سوتشون التي عاش فيها كيم سانغ-هون وإخوته، كانت في ذلك الوقت تُعرف باسم “جانغدونغ”. واكتسب هذا الحي شهرة كبيرة بفضل كتابات كيم العديدة، بما في ذلك القصائد العشر التي كتبها عن الأماكن الخلابة في سوتشون، وسجّل رحلة لاستكشاف جبل إنوانغ، وقصيدة يتوق فيها إلى موطنه كتبها أثناء احتجازه أسيرا في سلالة تشينغ الصينية.
الطرق الرئيسة حول سوتشون مليئة بالمباني الشاهقة، لكن الدخول إلى الأزقة الضيقة في المنطقة يذكر بالعودة إلى الماضي.
وكان لعشيرة جانغدونغ كيم تأثير كبير في مجال الثقافة أيضا. وكان أحفاد كيم هم رعاةَ “جونغ سون”، أحد أشهر الفنانين في أواخر عهد جوسون. وتقديرا لرعايتهم قام جونغ برسم مناظر سوتشون في ألبوم “جانغدونغ فالغيونغ (المواقع الثمانية الخلابة في جانغدونغ في سيول)”. وفي سنواته الأخيرة أنتج تحفة فنية بعنوان “إنوانغ جيسيكدو (مشهد جبل إنوانغ بعد المطر)”، صوّر فيها الجبل كما يُرى من بوكتشون الحالية التي تقع في شمال قصر غيونغبوك.
ومن جهة أخرى أدت التطورات في التجارة وضعف الفوارق الطبقية في أواخر عصر جوسون إلى زيادة المكانة الاجتماعية لأفراد الطبقة الوسطى الذين كانوا مسؤولين من ذوي الرتب الدنيا في جنوب وسط سوتشون. ومع زيادة فرص التعليم، اندمجوا بشكل تدريجي في ثقافة النبلاء وانخرط العديد منهم في أنشطة أدبية من خلال إنشاء التجمعات الشعرية بشكل منتظم حول حي أوغين القريب من جبل إنوانغ، والذي كان موطنا للنبلاء. وكان من بين أشهر التجمعات “نادي سونغ سوك-وون للشعراء”، الذي لعب دورا مهما في تعزيز أدب الطبقة الوسطى في جوسون حين كان أدب النبلاء يهيمن عليها. وقام هذا النادي بنشر العديد من المختارات الشعرية، وكان أعضاؤه نشطاء حتى أوائل القرن التاسع عشر.
سوتشون في العصر الحديث
بنى الموالون لليابان منازل كبيرة في سوتشون خلال فترة الاستعمار الياباني (١٩١٠ – ١٩٤٥ م). وكان أحد أبرزهم هو “يون دوك-يونغ” الذي شارك في توقيع المعاهدة الكورية اليابانية لعام ١٩١٠، وهي معاهدة يتنازل فيها الإمبراطور الكوري لليابان عن كل سلطاته. وبنى يون قصرا على الطراز الغربي تبلغ مساحته حوالي ٨٠٠ بيونغ (حوالي ٢,٦٤٥ مترا مربعا)، كان معروفا بأنه أكبر مسكن خاص في تلك الفترة. وتم بناء قصره في نفس المكان الذي استمتع فيه نبلاء جوسون بالفنون والموسيقى وأقام فيه أفراد الطبقة الوسطى تجمعات للشعر. ورغم أن القصر احترق في ستينيات القرن الماضي إلا أن المنزل الذي بناه يون لابنته على الطراز الغربي والمنزل الكوري التقليدي “الهانوك” الذي عاشت فيه محظيته ما زالا موجودين. وتحوّل منزل ابنته إلى “متحف باك نو-سو للفنون” التابع لمنطقة جونغرو، وتخطط مدينة سيول لتجديد الهانوك وفتحه أمام الجمهور.
المنزل الذي عاش فيه إي سانغ (١٩١٠ – ١٩٣٧ م) لمدة نحو ٢٠ عاما، وهو شاعر وروائي ومهندس معماري ترك بصمات لا تمحى في تاريخ الأدب الكوري الحديث. وكان من المقرر هدمه، لكن الصندوق الوطني للتراث الثقافي اشتراه في عام ٢٠٠٩ وتمكن من إدارته بفضل تبرع المواطنين ورعاية الشركات. وعلى أحد الجدران الداخلية يتم عرض أرشيف لأعمال إي سانغ حسب الترتيب الزمني.
© اتحاد المراكز الثقافية الكورية
وخلال فترة الاحتلال الياباني وبعد تحرير كوريا كانت سوتشون مركزا للنشاط الثقافي للشعراء والروائيين والفنانين المشهورين الذين تركوا بصمات لا تمحى في تاريخ الأدب والفن الكوري. ومن بينهم “إي سانغ” المعروف بقصائده ورواياته ومقالاته الطليعية، والشاعران المناهضان لليابان “إي يوك-سا” و”يون دونغ-جو”. ومن بين الفنانين البارزين الذين نشطوا في سوتشون “غو بون-أونغ”، وهو صديق إي سانغ، و”إي كوي-داي” الذي أطلق طاقته الغنائية القوية على اللوحات، و”إي جونغ-سوب” الذي تشبع لوحاتُه بالغنائية الريفية.
وكان الحدث التاريخي الأكثر أهمية الذي شهدته سوتشون بعد تحرير كوريا هو ثورة ١٩ أبريل ١٩٦٠. واحتجاجا على الرئيس آنذاك إي سينغ-مان والانتخابات المزورة فإن الطلاب والمواطنين ساروا إلى “غيونغ مو داي (الموقع الحالي للبيت الأزرق)” الذي عاش فيه الرئيس إي، وأطلقت الشرطة النار على المحتجين في حي هيوجا الحالي وساحة نافورة البيت الأزرق، مما أدى إلى اشتعال نيران الثورة.
وكانت سوتشون واحدة من أكثر المناطق السكنية قيمة إلى جانب بوكتشون منذ عهد سلالة جوسون. ومع ذلك فقد شهدت تراجعا تحت الحكم العسكري للرئيس الأسبق باك جونغ-هي خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي حيث فرضت إجراءاتُه الأمنية المشدّدة حول البيت الأزرق قيودا أكثر صرامة على هذه المنطقة. وتم رفع العديد من القيود في أعقاب حركة الديمقراطية الوطنية في عام ١٩٨٧. وفي عام ٢٠١٠ بدأت الحكومة بتقديم الدعم للأحياء ذات المنازل التقليدية، مما سمح لسوتشون بمزجها بالطبيعة والتاريخ والثقافة حتى إنها ازدهرت كواحدة من الوجهات الأكثر شعبية في سيول.
تتميز سوتشون بمزج متناغم من الهانوك الحديثة التي بُنيت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي والمباني المعاصرة. ويظهر في الخلفية جبلُ إنوانغ، أحد معالم المنطقة.
كيم غيو-وونكبير المراسلين، هانكيوريه ٢١
تشوي تاي-وونصور فوتوغرافي